لقد كان لإخواننا ولأحبابنا - في المنطقة الغربية - ما أتطلع إلى الاستفادة منه من مؤلفاتهم، وكنت قبل فترة اطّلع على ذكر بعضها في ملحق التراث الذي كانت جريدة ·المدينة تتحف به قراءها كل يوم خميس، ولكنه اختفى، ولعل المشرفين على إصدار هذه الجريدة اكتفوا بملحق ·الأربعاء إلَّا أن ما ينشر فيه يتفق - في الغالب - مع رغبات فئة من القراء وأغلبه مما يتصل بالأدب، في فروعه الحديثة، وكنت أتلقى على قلة - منذ أصبحت لا أتمكن من زيارة المكتبات - من المؤلفات لبعض الأخوة الاحبة ما اتحدث عما أراه مناسباً منه، ومن آخرها ما أتحفني به اخي الصديق عبد الله خياط، وهو مؤلفه ·صحافة الأمس والغد الذي كتبت عنه ما نشرته المجلة ·العربية في جزء شهر رجب عام 1418ه
لقد وفى الصديق حسن القزاز بوعده، فبعث إليّ بثلاثة كتب لطيفة سأتحدث عنها
إن صلتي بالأستاذ أبي علي وهكذا كنت أكنِّيه وأدعوه - قديمة تمتد جذورها إلى ما يقارب أربعين عاماً، فقد عرفته - حين كان الشيخ عبد الله بلخير مديراً عاماً للاذاعة والصحافة والنشر، أثناء الخلاف بين الملك سعود بن عبد العزيز وبين عبد الناصر - رحمهما الله - واتّجاه صحافة القطرين الشقيقين اتّجاها غير محمود، وكنت قد نأيت بالصحيفة التي كنت أقوم بإصدارها ورئاسة تحريرها وهي ·اليمامة وجهة اخرى ارتضيها ورأيتها هي المثلى، لصحافة تصدر من هذه البلاد التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون قبلة للعالم الاسلامي، في جميع المعمورة من الارض، منها تُقتبس أشعة النور الالهي الذي أضاء الكون ببعثة أشرف الخلق سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم - رسولاً يرشد جميع الخلق لما فيه صلاحهم في جميع أحوالهم، واختار له من أبناء هذه البلاد من آزره، ونشر دعوته المباركة في جميع أرجاء العالم، بالعدل والعلم والاصلاح، ولا يزال المستجيبون لقبول تلك الدعوة الكريمة يتجهون الى هذه البلاد بأجسامهم وقلوبهم، ينسمون من روح آثار تلك الدعوة ما ينعش أرواحهم بالأمل، ويقتبسون من منابعها ما يقوّي اتجاههم في حياتهم للأعمال النافعة، من ورثة حملتها الأوائل، ما لعلهم يجدون فيه من السعادة والاطمئنان الروحي فيما يتطلعون إليه، وإذن فما الذي يبقى لنا اذا جارينا الآخرين، بالانزلاق الى ما هو غريب وبعيد عن أخلاقنا؟! وما جاءت تعاليم شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالتحذير منه، وتحريمه مما يورث التباغض والتقاطع، وإيقاع الفرقة في صفوف أمة أمرها الله وأوجب عليها التآلف والتناصر، وحرّم عليها كل ما يفضي الى الخلاف والعداوة؟!
وأذكر أن من بين من نصحني بمجاراة الركب الصديق أبا علي ولا ازال أذكر له كلمة في الموضوع، لا داعي لذكرها، لقد كان الدافع له النصح الخالص لي، لئلا يحدث ما حدث من مصادرة صحيفتي، واضطراري الى البقاء في لبنان البلد الجميل بعيداً عن أهلي وبلادي منذ أول شهر رمضان سنة ،1381ه حتى شهر ذي القعدة من عام 1395ه - لأدع التوسّع في هذا الحدث المحزن، فقد انتهت جميع الأمور على خير الوجوه، وأعمّها نفعا، في كل ما يعود على أمتنا في جميع أقطارها بالخير، وعلى بلادنا بالاطمئنان والسعادة، والنظر إليها نظرة حب وإجلال وتقدير، لما تقوم به من دواعي التآخي والتآلف والتعاون، مع بقية الأقطار الاسلامية على البر والتقوى
وأرى المناسبة تدعو لإيراد لمحات موجزة عن ذكريات إحدى الرحلات، التي أنست خلالها بأبي علي
رحلة صحفية الى ·الولايات المتحدة الأمريكية:
كانت أرامكو قد وجهت الدعوة لخمسة صحفيين للسفر إلى امريكا للاطلاع على ما يهمهم الاطلاع عليه من مظاهر الحضارة الحديثة، ومعالم مدنها، ومختلف أحوالها، وقدّمت لهم برنامج الزيارة الذي يحوي تحديد وقت السفر وتاريخ انتهائه، وما اتخذ خلال ذلك يوما فيوماً لتسهيل مهمة الوفد وتمكينه من مشاهدة ما يتطلع اليه، ولعل وقوع زمن ابتداء الرحلة آخر فصل الصيف، حيث يقضيه أغلب الصحفيين خارج البلاد، حال دون اشتراكهم في تلك الرحلة، مع حجز امكنة نزولهم في الفنادق واعداد جميع متطلبات رحلتهم فاقتصر الأمر على الاستاذ حسن عبد الحي قزاز رئيس تحرير جريدة ·البلاد وحمد الجاسر رئيس تحرير ·اليمامة وهذا ما سأحاول استذكار جوانب منه بعد مرور ما يزيد على 39 عاما عليه
من الذكريات التي لا أزال أستعيد بعضها من خلال ذاكرة كليلة، توافقنا في خريف عام 1360ه في رحلة صحفية، طويلة هيأتها لنا أرامكو الى الولايات المتحدة الامريكية حيث قضينا في تلك البلاد اكثر من شهر، جُسنا خلالها البلاد شرقاً فغرباً، وشمالاً فجنوباً، وحدث أثناءها إضراب الطيارين وكان المقرر ان نغادر مدينة شيكاغو بالطائرة الى كاليفورنيا إلا اننا اضطررنا الى امتطاء القطار مدة تجاوزت 48 ساعة لقطع المسافة بين المدينتين وأبو علي ورفيقه في حجرة واحدة، لا يجدان ما يتسليان به لازجاء الوقت سوى ما يتجاذبان من احاديث فيها المسلّي وفيها المبهج وفيها وفيها
بلغنا ما قصدنا وكان من برنامج الزيارة الذي وُضع مدروساً ونُفذ بدقة متناهية سوى ما دعت الضرورة لالغائه - كان من المقرر ان نزور جامعة برِكلِي وان نلتقي بالطلاب العرب في الجامعة ونزورهم في مساكنهم، حيث سننزل في فندق مجاور لذلك المكان يوماً، ثم نذهب الى الجامعة، فاقترحت على المشرفين على الرحلة ومنهم ثلاثة مرافقون لتنظيمها ان يكون نزولنا مع الطلبة لا سيما وان الغاية من الاجتماع بهم والاطلاع على ما يمكن الاطلاع عليه من احوالهم ومن بينهم بعض أبنائنا، ولا داعي لانفرادنا عنهم في فندق، ما دامت الغاية من زيارتهم ذلك فأبدى الاخوة ان سكنهم سوف لا يكون مريحا لنا، ولكنني صممت على هذا، مما جعلهم يخرجون طالبين من حجرتيهما لنزولنا ورفضت ان يهيئوا طعامنا من الفندق واردت ان نشارك ابناءنا الطلاب فيما يقدم لهم من طعام، كان السير بالقطار تلك المسافة متعبا، فبمجرد الوصول، والاستقرار في منزل الطلبة قبل ان يحين وقت الغداء تمددت على السرير الضيق الصغير، ولكنني استغرقت في نوم هادىء لذيذ، لم يقطعه عليَّ إلا أبو علي يهز السرير صائحاً: يَبُوي قُم قُم!! شُفِ المكان الذي اخترته لنزولنا؟! واذا به يشير الى أحد الطلاب، وقد خرج من حجرته الى دورة المياه عريان!! وانتهى الأمر بقهقهة عريضة، ثم باشتغالنا بصلاة الجَمع وقد أحضر الغداء من مطعم الطلاب لم يكن كما توقع أبو علي فالتهمنا منه على نَهَم وجوع، واحسسنا أنه من خير ما قُدّم لنا، وبعد المغرب كان الذهاب الى الجامعة، وهي على مقربة منا حيث اعد الطلاب العرب احتفالاً بالوفد الصحفي السعودي الذي لم يصل منه سوى اثنين - فيما أذكر - وألقى الدكتور جورج لِنشوفِسكي الأستاذ في الجامعة كلمة الترحيب باللغة الانجليزية، وتولى تعريبها جملة جملة أحمد الخطيب، سوري من الطلبة - فكان مما جاء فيها: وها أنتم الآن ترون جامعاتنا في الولايات المتحدة مفتّحة الأبواب لجميع الطلاب العرب، ولسنا كدول الستار الحديدي لا يقبلون في جامعاتهم سوى ·الشيوعيين !! وجاء دور كلمة الوفد الصحفي فامتنع أبو علي عن إلقائها ويبدو أن شُعيرات لحيتي كان لها من الجاذبية، ما ألجأني للتحدث تلك الأمسية، وكنت قد كتبت اسم الدكتور، فشكرته في النهاية، ووجهت له القول: وكنت أود أنني سمعت الامتنان بقبول أبنائنا في الجامعات الامريكية ولوم اولئك على عدم قبولهم من رجل سياسي - كالسيد دَلَس كان وزير الخارجية - لا من أستاذ جليل يتولى توجيه أبنائنا وتثقيفهم، فالدكتور يدرك أن العلم تراث الانسانية كلها من جميع امم العالم، من الاغريق والعبرانيين والكلدانيين والعرب وغيرهم، ولهذا فهو حق مشاع لجميع الناس على السواء، يجب أن ينال كل فرد نصيبه كاملاً غير منقوص، ولو جاز الامتنان لقيل: إن جامعات العرب في قرطبة وفي تونس وفي القاهرة وفي مكة كانت مفتحة الأبواب لكل طالب، حين كان من في الغرب - وأمريكا - يغط في سُبات عميق من الجهل، ولكن الامتنان ببذل العلم مما لا يجوز، وبعد انتهاء حديثي ألقى الدكتور لنشوفسكي كلمة حاول الاعتذار بها ولكنها في الواقع كانت عذراً أسوأ من فعل إذ قال ما ملخصه: كنت اعتقدت أثناء اعداد كلمتي أنني سأوجهها الى صحفيين وما عرفت أن من بينهم - ثم استرسل في الثناء معتذراً مقرراً أن الحق ما قلت - أي إن الصحفيين يحسن معهم تمويه الحقائق دون ايضاحها مع أن لنشوفسكي عالم واسع الاطلاع وله ابحاث ومؤلفات تتعلق بالنفط ومنها ما تعرضت صحيفة ·اليمامة لنقده
لقد استطردت في الحديث، وتلك عادتي فمعذرة، وعودة لذكريات أبي علي ذكره الله بكل خير
كانت الرحلة من الظهران الى أمريكا على طائرة صغيرة تملكها ارامكو اسمها الغزال وقد هُيئت للوفد اماكن مريحة، مقاعد جلوس تُمدّد سُرراً عند الحاجة، وكان المرور بلندن بعد النزول في هولندا يوما، وفي الطائرة رفقة امريكيون سيأتي الحديث عن بعضهم
كان المرور بجزيرة شنن في ايرلندا ومنها الاقلاع لقطع المحيط ليلاً ومن عادتي بمجرد الاقلاع من الارض ينتابني النوم في الغالب، فلا أصحو إلَّا حين أحس بعجلات الطائرة فوق الارض، وهكذا استغرقت منذ أقلعت الطائرة من شنن ولكن أبا علي صاح بي وهو يهز بالمقعد الذي نمت فوقه قم! قم! يا أبويا، حِنّا فوق المحيط الله يستر!!
لماذا هداك الله يا أبا عليّ نكدت علي ما أنا مرتاح به يا بويا ما تخاف تغرق! فُخّ فُخّ!
يا أخي دعني أغرق وأنا نائم خير لي وأنا مستيقظ دعني!! كان يجلس في الكرسي المقابل له، وكانت الكراسي المعدة للوفد موضوعة بشكل دائري متقابلة - فتاة وهبها الله من الجمال والرقة والأناقة في اللباس ما لفت نظر أبي علي إذ كان إذاك في ميعة الشباب، واي شاب لا تكون له صبوة؟ إن ربّك ليعجب من شاب لا صبوة له، إنه عجب رضا وترغيب وحث على العفاف، وكانت الفتاة ترتدي فرواً ثميناً، فأخرج من حقيبته قنينة عطر يبدو أنه ممتاز، وأخرج مِروَدَ القنينة المشبع بالعطر وصار يمسح به فروها فزعقت صارخة وارتفع صوتها وصخبها فقرب مني أبو علي: شيخ حمد! شيخ حمد! قم شوف هذي اللئيمة، أطيّب فروها وتثور عليّ!! يا أخي: دعها وشأنها، ودعني أنام، وهكذا كان حتى هبطت الطائرة بجزيرة قَلدَر في كندا حيث قطعت بنا المحيط في ثماني ساعات
للحديث صلة
حمد الجاسر