وُلد الشيخ بكرى بن يحيى قزاز في مكة المكرمة نحو عام 1881م، في زمن كانت فيه المدينة عامرة بالعلماء والتجار والوجهاء، فشبّ في بيئة تجارية علمية، وتربى على احترام الدين والعلم وأهله. وقد التقى منذ نعومة أظفاره بكبار علماء مكة في ذلك العهد وتلقى عنهم ما تيسّر من العلوم الدينية واللغة، مما أكسبه مكانة محترمة بين أبناء جيله.
لم يكن الشيخ بكرى مجرد طالب علم أو وجيهٍ اجتماعي، بل كان تاجراً ناجحاً ترك بصمة واضحة في النشاط التجاري بمكة. فقد عمل في تجارة الأقمشة والبضائع الواردة من الهند، واستطاع أن يكوّن ثروة معتبرة جعلته واحداً من أبرز أعيان مكة ومن أغنيائها في العهد الهاشمي. وبفضل هذه المكانة، اشترى بيوتاً في حي جرول وفي مشعر منى، وكان يعيش على ريع تلك العقارات بما يضمن له مداً ثابتاً من الدخل.
إلى جانب نشاطه في التجارة والعقار، لعب الشيخ بكرى دوراً ثقافياً بارزاً، إذ كان وكيلاً لبيع صحيفة القبلة الهاشمية، التي اعتُبرت لسان حال الدولة الهاشمية في الحجاز، واستمر صدورها ثماني سنوات (1336هـ – 1344هـ / 1917م – 1925م). وكان لمتجره في منطقة سويقة دور مهم كمركز لتوزيع الصحيفة ونشر أخبارها. كذلك ساهم في تأسيس شركة الجلود والصوف الوطنية، التي ترأسها أخوه الشيخ عبدالوهاب بن يحيى قزاز، ما يعكس روح الشراكة بين أبناء العائلة ورغبتهم في النهوض بالاقتصاد الوطني في ذلك العصر.
أحداث الانتقال السياسي في الحجاز
مع دخول الملك عبدالعزيز آل سعود مكة عام 1924م، تعرّضت المدينة لهزات سياسية واقتصادية أثرت في كثير من أسرها. وكان من أبرز الأحداث التي مست أسرة القزاز القبض على الشيخ عبدالوهاب قزاز، الذي كان يشغل منصب وزير النافعة في حكومة الشريف. حاول حينها الشيخ بكرى مع أخيه الشيخ محمد قزاز الفرار إلى سواكن بالسودان أسوة ببقية رجال الشريف، إلا أن بكرى، بدافع الوفاء لأخيه، رفض أن يتركه وحيداً وعاد من جدة إلى مكة، في حين واصل بقية إخوته رحلتهم إلى السودان.
جاء الفرج بعد ذلك بالعفو العام الذي أعلنه الملك عبدالعزيز عقب اتفاقية تسليم جدة بين الشريف حسين بن علي والملك المؤسس. وذُكر اسم آل القزاز في الوثيقة التي تضمنت العفو عن عدد من الأسر والشخصيات البارزة، فكان ذلك سبباً في إنهاء الأزمة وبقاء الشيخ بكرى وأسرته في مكة.
النزاع حول المنزل والسفر إلى مصر
رغم صدور العفو، واجه الشيخ بكرى تحدياً جديداً حين استولى الشيخ عبدالله السليمان، أحد كبار رجالات الملك عبدالعزيز، على منزله في حي جرول وأسكن فيه خدمه. أثار ذلك غضب الشيخ بكرى فغادر مكة متجهاً إلى مصر، حيث اشترى أرضاً في مصر القديمة وبنى فيها بيتاً، فكان أول بيت في تلك الناحية حتى سُميت المنطقة لاحقاً "حارة القزاز" نسبة إلى منزله، وهو ما خلد ذكراه في مصر كذلك.
مرت الأعوام، والتقى الشيخ بكرى بالشيخ عبدالله السليمان خلال وجودهما معاً في مصر، فتم التفاهم بينهما وأعيدت الأمور إلى نصابها. أقنع السليمان الشيخ بكرى بالعودة إلى مكة، واستُرد منزله في جرول، فعاد ليستقر به ويواصل حياته معتمداً على ريع عقاراته وأملاكه، بعيداً عن السياسة ومنافساتها.
وفاته وإرثه
أمضى الشيخ بكرى بقية حياته في مكة المكرمة، محاطاً بالاحترام والتقدير من أعيانها وأبنائها، إلى أن توفاه الله عن عمر ناهز الثمانين عاماً، نحو عام 1961م. خلف إرثاً من العطاء في ميادين التجارة والثقافة والاجتماع، وظل اسمه مقترناً بمرحلة تاريخية مهمة من تاريخ مكة المكرمة وأسرة القزاز، ولا يزال يُذكر في مجالس العائلة كأحد أبرز رجالاتها وأكثرهم تأثيراً.